اللغة العربية قديمة وحديثة في آن واحد. هي خالدة في النص القرآني، ولكنها تؤكد على أهميتها أيضاً عبر الإنترنت والقنوات الفضائية في الوقت ذاته. تشترك 22 دولة في جامعة الدول العربية في اعتمادها كلغة رسمية، إضافة إلى منظمة الأمم المتحدة. وفيما تصنّف اللغة الرابعة في العالم من حيث عدد المتحدثين بها (أكثر من 400 مليون)، والثانية لجهة امتدادها الجغرافي لاستخدامها في 60 دولة مختلفة، إلا أنها تظهر في المرتبة الأخيرة بين اللغات العالمية لجهة انتشار تدريسها: هذا هو الوضع المتناقض للغة العربية.
أين ولدت اللغة العربية ومتى؟ ما هي المراحل الرئيسية لتطورها؟ ما هي ميزاتها بالمقارنة باللغات الأخرى؟ كيف تتصل بالهوية الثقافية؟ وما هي تحديات المستقبلية؟
ولدت اللغة العربية في شبه الجزيرة العربية وبادية الشام، وهي تنتمي إلى عائلة اللغات السامية التي ظهرت قبل عدة قرون من الميلاد. ويتسم مسارها بتفاعل ديناميكي مع المجالات اللغوية والثقافية الأخرى. ويمكن ملاحظة هذه الحقيقة من خلال ظهور لغة "عربية أولية"، تم التعبير عنها بداية عبر الحروف الهجائية المستعارة من لغات أخرى (الأكادية). بعدها، تمّ توثيق اللغة العربية "القديمة" بالحروف النبطية، وأشهرها كتاب النمرة المؤرخ عام 328 ميلادي، والذي اكتشفه اثنان من علماء الآثار الفرنسيين في جنوب سوريا.
حتى القرن السادس، كانت اللهجة الأدبية فوق القبلية تؤكد نفسها كلغة شعر. إلا أن ظهور الإسلام في القرن السابع أضفى عليها بعدًا مقدسًا، بسبب استعمالها في القرآن الكريم. لذا، يمكن اعتبار مجموع النص القرآني والشعر الجاهلي شكّل أسس العربية "الفصحى".
عزز التوسع الجغرافي للإسلام من انتشار اللغة العربية، لا للعبادة وحسب، بل للإدارة أيضاً. ففي عهد الأسرة الأموية (661-750)، التي جعلت من دمشق عاصمتها، اعتمدت وحدة اللغة والأبجدية العربية في الإمبراطورية. وتُعتبر هذه الفترة بداية التدوين اللغوي، وانطلاق الإصلاح التدريجي للتهجئة، والتنقيح، ونسخ النصوص القديمة المنقولة عن التقليد الشفوي. أما الخلافة العباسية (750-1250)، التي اتخذت بغداد عاصمةً لها، فبدأت انفتاحاً استثنائياً على الثقافات الأخرى، ما جعل اللغة العربية أداة معرفة بامتياز، وذلك بفضل حركة الترجمة الواسعة التي امتدت لأكثر من مئتي عام ( بين القرنين الثامن والعاشر). عُرّبت في تلك الفترة، أعمال الطب اليوناني، والمنطق، والفلسفة، والأدب الفارسي، وعلم الفلك الهندي. غالبًا ما كان ذاك التعريب على يد مترجمين سريان مسيحيين، بتشجيع من "بيت الحكمة" الذي تم إنشاؤه في بداية القرن التاسع. وأنتجت الحركة هذه نصوصاً عظيمة من النثر الأدبي وساهمت في إحياء الفكر الفلسفي والعلمي (علم الفلك، والطب، والرياضيات وحتى الفنون العسكرية). وشكّلت تلك الفترة أيضاً العصر الذهبي للعلوم عند العرب، والعصر الإنساني للأدب العربي كأدب نخبوي.
في موازاة ذلك، أدى استمرار حكم السلالة الأموية في شبه الجزيرة الأيبيرية (711-1492) إلى ثنائية اللغة (عربية - رومانية) في الأندلس. ورغم اندثارها بعد سقوط الأندلس، بقي عنها الكثير من الآثار في اللغات الأوروبية (مثلاً: كل الأسماء التي تبدأ بحرفي "Al" هي من أصل عربي). في القرن الحادي عشر، ومع سقوط طليطلة عام 1085، تمت ترجمة النصوص المهمة مرة أخرى من العربية إلى اللاتينية، وتم إنقاذها من النسيان، لأن النسخ الأصلية اختفت لا سيما أثناء تدمير المغول لمكتبة بغداد عام 1257.
في المقابل، فرضت السلطنة العثمانية (1299-1923) اللغة التركية لغة رسمية في بلدان المنطقة الواقعة تحت سيطرتها، فبدأت اللغة العربية فترة ضمور نسبي. ولم تتم العودة إلى المصادر العربية الأساسية وتحديث اللغة العربية، سوى مع حركة النهضة الاجتماعية والثقافية في القرن التاسع عشر بقيادة المثقفين العرب المشرقيين من مختلف الطوائف، ما أدى إلى "العربية المهنية"، وهي أقرب إلى لغة وظيفة التواصل المعمول بها في إعلام اليوم.
تشترك اللغة العربية في العديد من العناصر مع اللغات السامية الأخرى، بما في ذلك الكلمات المرتبطة بالجذر الثلاثي، والكتابة التي لا تظهر جميع حروف العلة، وعدد معين من الأصوات المؤكدة أو المزمنة. وتعتمد اللغة العربية في تصريف الأفعال تمييزاً بين الفعل المنجز وغير المنجز، بدلاً من التتابع الزمني فقط، مع إمكانية الإشارة فيها إلى تنوع الأوضاع والأوقات من خلال أحرف وكلمات بادئة أو لاحقة. ويسمح هذا الإستخدام لها بإيجاز شديد، يصل إلى ذروته في الشعر، ما أكسب مثلاً بعض الآيات الجاهلية متانة الأمثال الشعبية. وأخيرًا، يعدّ ثراء مفردات اللغة العربية ميزة أخرى لها، وقد تكون هذه الميزة ألهمت عناوين كتب مثل "أسماء الحب المائة في اللغة العربية".
بوابة الطائر 71 نتيجة
Charles PELLAT, Langue et littérature arabes, Colin 1952
Kees VERTEEGH, The arabic language, Edinburgh University Press 2014
Dimitri GUTAS, Pensée grecque, culture arabe, Flammarion, 2005
Djamel EDDINE KOULOUGHLI, L'arabe, collection Que sais-je, février 2007
« Arabiyya », Encylopédie de l’Islam (nouvelle édition)
Revue Qantara, dossier spécial « langue arabe » avril-mai-juin 1996 https://www.washingtonpost.com/news/worldviews/wp/2015/04/23/the-worlds-languages-in-7-maps-and-charts/
تستثمر اللغة العربية شحنة عاطفية قوية من قبل المتحدثين بها، حتى تبدو وكأنها لا تنفصل عن الثقافة. في عصور الجاهلية، كانت كلمة الشاعر ذات قيمة كبيرة لدرجة أنها أعطته دورًا اجتماعيًا فريدًا، حتى يمكن مقارنته بحامل لواء القبيلة وحافظ ذكرها. ويمكن ايجاد صيغة حضرية لهذا الدور في بلاط الخلفاء والأمراء. وفي التاريخ المعاصر، استمر الافتتان بالكلمة الشعرية يتجلى مع الشخصيات الرمزية العابرة للحدود مثل الشاعر الفلسطيني محمود درويش أو المطربة المصرية أم كلثوم. أما الخط، فهو مجال قائم في في حد ذاته، وترك بصماته في مختلف الفنون، وعلى مختلف الخلفيات: الزجاج والمعدن والخزائن والمباني. ويتجلّى البعد الثقافي للغة بالقرآن، وعاء الوحي وتجسيد الكمال اللغوي الذي لا يُضاهى (إعجاز). ومع حركة النهضة في القرن التاسع عشر، زيد إلى اللغة بُعدٌ أيديولوجي واجهته القومية العربية متعددة الطوائف في مواجهة التتريك والسلطنة العثمانية، واتسمر في مواجهة القوى الاستعمارية في القرن العشرين. اما في القرن الحادي والعشرين، فقد أدى افارط الأنظمة الاستبدادية في استغلال الارتباط الشعبي باللغة إلى إضعاف هذا البعد بطريقة ما. ومع ذلك، تمكنت اللغة من احتضان تطلعات الربيع العربي، إلا ان توتر الهوية الدينية في العالم العربي اليوم أدّى إلى استبدال علامة الهوية اللغوية. ومهما كان الامر، بقى الحقيقة أن مسألة اللغة تظل حساسة للغاية، بل وعاطفية.
يمكن ملاحظة ذلك بشكل خاص من خلال الخلافات حول العلاقة بين اللغة العربية المهنية واللهجة، والتي تعكّر من وقت لآخر المشهد السياسي. هناك بالفعل فجوة معينة بين اللغة العربية الفصحى المشتركة بين كل الدول العربية (الصحافة، والإعلام، والمؤتمرات الدولية، والمراسلات الرسمية، والأدب) واللهجات الوطنية المستخدمة بشكل يومي. ومع ذلك، فإن الانتشار المتزايد للإنترنت في العالم العربي، وفتح الفضاء الإعلامي امام اللهجات المختلفة، أبرز اللغة العربية الفصحى الحديثة المبسطة، التي تبني جسورًا متعددة بين اللغة واللهجات. إلا أن تقليص الفجوة في الواقع يعتمد على مستوى التعليم في الدول العربية، كما أشار برنامج الأمم المتحدة الإنمائي عام 2003. أبعد من هذه الفجوة، التي كانت موجودة دائمًا، تكمن التحديات الحقيقية التي تواجه اللغة العربية اليوم، في عدم استقرارالبيئة التي يتطور فيها المتحدثون باللغة العربية. فهذا في الواقع يعيق قدرة المجتمعات على اكتساب المعرفة وانتاجها، وهو معيار أساسي لتأثير اللغة. كذلك، لا يمكن لهذا الوضع إلا أن يعرض سياسة تحديث التعليم المشتركة بين الدول للخطر.
يسعى معهد العالم العربي في باريس إلى نشر اللغة العربية عبر منهج تربوي حديث وحازم، يمكن إدراكه في دوراته العلمانية والمرحة، وفي شهادة تقييم الكفاءة التي أطلقها.
ن.ي.
Pour recevoir toute l'actualité de l'Institut du monde arabe sur les sujets qui vous intéressent
Je m'inscris